مقدمة في الدراسات الإعلامية (20)
نظريات التأثير الإعلامي
نظرية التأثير المباشر أو الإبرة تحت الجلد
أول نظرية في مجال التأثير الإعلامي هي نظرية الإبرة تحت الجلد، بمعنى أن تأثير الإعلام يشبه حقن المريض بحقنة الدواء. وهي تقول بأن الرسائل الإعلامية تؤدي دائماً إلى استجابة مباشرة وقوية لدى الجمهور، وتسمى أيضاً بنظرية الرصاصة السحرية، بمعنى أن المحتوى الإعلامي ينطلق مثل الرصاصة ويصيب الهدف.
يعود أصل النظرية إلى كتابات الباحث الأمريكي هارولد لازويل الذي اهتم بدراسة الدعاية السياسة أثناء الحربين العالمية الأولى والثانية. وقد لاحظ لازويل قوة تأثير الدعاية والحرب النفسية وإثارة الشائعات التي صاحبت تلك الحروب.
ونظرية الإبرة تحت الجلد تقول بأن وسائل الإعلام لها نفوذ وتأثير مباشر على الجمهور، وتصف سيطرة وسائل الإعلام على ما يرى الجمهور ويسمع ويقرأ، والتأثير الذي يكون في الغالب قوياً وفورياً. وفي نفس الوقت، تدل النظرية على ضعف الجمهور وعدم قدرته على مقاومة ما يُعرض عليه، وبالتالي، سهولة التأثير على الرأي العام وتعديل السلوك.
وترى النظرية أيضاً أن تأثير وسائل الإعلام يزيد في وقت الأزمات، مثل الحروب والكوارث الطبيعية، حيث يعتمد الجمهور على وسائل الإعلام في الحصول على المعلومات. ومن أشهر الوقائع التي تستخدم للدلالة على قوة تأثير وسائل الإعلام، في بداية ظهور هذه النظرية، هو الهلع الجماهيري الكبير الذي حدث نتيجة بث برنامج إذاعي خيالي عن غزو كائنات فضائية لكوكب الأرض. ففي عام 1938 بث راديو (سي بي إس) تمثيلية بعنوان (حرب العوالم)، وجاءت على شكل أخبار عاجلة، فظن الكثير من المستمعين بأنها أحداث حقيقية، وخرج العديد من الناس إلى الشوارع مفزوعين لطلب النجدة.
بالإضافة إلى ذلك، ظهرت بعض الدراسات التي رصدت تأثير عدد من وسائل الإعلام على الجمهور، منها مثلاً مجموعة بحوث تُعرف بإسم دراسات (بين فوند). وهي عبارة عن سلسلة من الدراسات حاول الباحثون فيها قياس تأثير السينما على الأطفال والمراهقين باستخدام أحدث المقاييس العلمية المتوفرة في ذلك الوقت. وفي الغالب، حذر الباحثون من التأثيرات الذهنية والسلوكية السلبية المباشرة على الأطفال والمراهقين نتيجة تعرضهم للأفلام السينمائية.
وبشكل عام، فإن نظرية التأثير المباشر ترى أن رد فعل الجمهور موحد ومتجانس، ونابع من استجابات فطرية لا شعورية. ولكن من عيوبها أنها لا تدرس الفروقات الفردية بين الجمهور، من حيث العمر والجنس ومستوى التعليم والخبرات السابقة، وغير ذلك. كما أنها لا تهتم بتأثير التواصل الشخصي بين الأفراد ودور ذلك في فهمهم لوسائل الاتصال.
ولذلك، ظهرت دراسات أخرى في وقت لاحق تتعارض مع نظريات التأثير المباشر، من أهمها دراسات الباحث بول لازرسفيلد في مجال الحملات الإعلامية السياسية. فقد وجد لازرسفيلد أن الناخبين لا يتأثرون بالحملات الدعائية فقط، بل يسعون للنقاش مع الأفراد الآخرين في محيطهم الاجتماعي قبل اتخاذ القرار. واتضح أيضاً أن الاتصال الشخصي له دور كبير في التأثير على الجمهور يفوق أحياناً دور وسائل الإعلام.
وحالياً، يرى معظم علماء الاتصال أن نظرية التأثير المباشر (الإبرة تحت الجلد) ليست صحيحة، لأنها تتجاهل دور الاتصال الشخصي، كما أنها لا تناقش التنوع الكبير في وسائل الإعلام والاتصال التي ظهرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، وبالذات ظهور منصات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الرسائل الفورية، التي جعلت الجمهور الآن يقلل من اعتماده على وسائل الإعلام التقليدية، التي أصبحت غير قادرة على التحكم في اختياراته.
ولكن من المفارقات العلمية الآن هو أن بعض الباحثين يرى أن وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة ساعدت في عودة نظرية التأثير المباشر، بمعنى أن هناك حالات تصل فيها الرسائل بشكل مباشر إلى الجمهور عن طريق أشكال متعددة من أدوات التواصل الاجتماعي،ِ من أهمها حسابات المشاهير والمؤثرين.
وسنعود للحديث عن هذه الظاهرة في المقال القادم إن شاء الله.